من هو ذو القرنين!.

وأخرج ابن إسحق وابن المنذر وابن أبي حاتم والشيرازي في الألقاب وأبو الشيخ ، عن وهب بن منبه اليماني – وكان له علم الأحاديث الأولى

– أنه كان يقول : كان ذو القرنين رجلاً من الروم ابن عجوز من عجائزهم ليس لها ولد غيره ، وكان اسمه الاسكندر وإنما سمي ذا القرنين لأن صفحتي رأسه كانتا من نحاس ، فلما بلغ وكان عبداً صالحاً قال الله له :

«يا ذا القرنين ، إني باعثك إلى أمم الأرض منهم أمتان بينهما طول الأرض كلها ، ومنهم أمتان بينهما عرض الأرض كلها ، في وسط الأرض منهم الإنس والجن ويأجوج ومأجوج ، فأما اللتان بينهما طول الأرض ، فأمة عند مغرب الشمس يقال لها ناسك ، وأما الأخرى ؛ فعند مطلعها يقال لها منسك.

، وأما اللتان بينهما عرض الأرض فأمة في قطر الأرض الأيمن يقال لها هاويل ، وأما الأخرى التي في قطر الأرض الأيسر فأمة يقال لها تأويل . فلما قال الله له ذلك قال له ذو القرنين :

يا إلهي ، أنت قد ندبتني لأمر عظيم لا يقدر قدره إلا أنت ، فأخبرني عن هذه الأمم التي تبعثني إليها ، بأي قوة أكابرهم ، وبأي جمع أكاثرهم ، وبأي حيلة أكايدهم ، وبأي لسان أناطقهم ؟ ؟ ؟

وكيف لي بأن أحاربهم ، وبأي سمع أعي قولهم ، وبأي بصر أنفذهم ، وبأي حجة أخاصمهم ، وبأي قلب أعقل عنهم ، وبأي حكمة أدبر أمرهم ، وبأي قسط أعدل بينهم ، وبأي حلم أصابرهم ، وبأي معرفة أفصل بينهم ،.

وبأي علم أتقن أمرهم ، وبأي يد أسطو عليهم ، وبأي رجل أطؤهم ، وبأي طاقة أخصمهم ، وبأي جند أقاتلهم ، وبأي رفق أستألفهم . . . ؟ ؟ ؟ وإنه ليس عندي يا إلهي شيء مما ذكرت يقرن لهم ، ولا يقوى عليهم ولا يطيقهم ، وأنت الرب الرحيم الذي لا يكلف نفساً ولا يحملها إلا طاقتها ، ولا يعنتها ولا يفدحها بل يرأفها ويرحمها .

فقال له الله عز وجل :.

إني سأطوقك ما حملتك ، أشرح لك صدرك فيتسع لكل شيء ، وأشرح لك فهمك فتفقه كل شيء ، وأبسط لك لسانك فتنطق بكل شيء ،

وأفتح لك سمعك فتعي كل شيء ، وأمد لك بصرك فتنفذ كل شيء ، وأدبر لك أمرك فتتقن كل شيء ، وأحصر لك فلا يفوتك شيء ، وأحفظ عليك فلا يغرب عنك شيء ، وأشد ظهرك فلا يهدك شيء ، وأشد لك ركبك فلا يغلبك شيء

، وأشد لك قلبك فلا يروعك شيء ، وأشد لك عقلك فلا يهولك شيء ، وأبسط لك يديك فيسطوان فوق كل شيء ، وألبسك الهيبة فلا يروعك شيء . وأسخر لك النور والظلمة فأجعلهما جنداً من جنودك يهديك النور من أمامك وتحوطك الظلمة من ورائك .

فلما قيل له ذلك انطلق يؤم الأمة التي عند مغرب الشمس ، فلما بلغهم وجد جمعاً وعدداً لا يحصيه إلا الله تعالى ، وقوة وبأساً لا يطيقه إلا الله ، وألسنة مختلفة وأموراً مشتبهة وأهواء مشتتة وقلوباً متفرقة ،

فلما رأى ذلك كابرهم بالظلمة وضرب حولهم ثلاثة عساكر منها ، وأحاطت بهم من كل جانب وحاشدهم حتى جمعهم في مكان واحد ثم دخل عليهم بالنور ، فدعاهم إلى الله وعبادته . . . فمنهم من آمن ومنهم من صدّ عنه ،

فعمد إلى الذين تولوا عنه فأدخل عليهم الظلمة فدخلت في أفواههم وأنوفهم وآذانهم وأجوافهم ، ودخلت في بيوتهم ودورهم وغشيتهم من فوقهم ومن تحتهم ومن كل جانب منهم فماجوا فيها وتحيروا ،.

ذو القرنين..

فلما أشفقوا أن يهلكوا فيها عجوا إليه بصوت واحد فكشف عنهم وأخذهم عنوة فدخلوا في دعوته ، فجند من أهل المغرب أمماً عظيمة فجعلهم جنداً واحداً ،

ثم انطلق بهم يقودهم والظلمة تسوقهم من خلفهم وتحرسهم من حولهم ، والنور من أمامه يقوده ويدله وهو يسير في ناحية الأرض اليمنى ، وهو يريد الأمة التي في قطر الأرض الأيمن التي يقال لها هاويل..

. وسخر الله يده وقلبه ورأيه ونظره وائتماره فلا يخطئ إذا ائتمر وإذا عمل عملاً أتقنه ، فانطلق يقود تلك الأمم وهي تتبعه . . . فإذا انتهى إلى بحر أو مخاضة بنى سفناً من ألواح صغار أمثال البغال فنظمها في ساعة واحدة ثم حمل فيها جميع من معه من تلك الأمم وتلك الجنود ،

فإذا قطع الأنهار والبحار فتقها ثم دفع إلى كل إنسان لوحاً فلا يكربه حمله ، فلم يزل ذلك دأبه حتى انتهى إلى هاويل فعمل فيهم كعمله في ناسك ، فلما فرغ منهم مضى على وجهه في ناحية الأرض اليمنى

حتى انتهى إلى منسك عند مطلع الشمس فعمل فيها وجند منها جنوداً كفعله في الأمتين اللتين قبلهما ، ثم كر مقبلاً في ناحية الأرض اليسرى وهو يريد تأويل – وهي الأمة التي بحيال هاويل وهما متقابلتان ، بينهما عرض الأرض كلها

– فلما بلغها عمل فيها وجند منها كفعله فيما قبلها ، فلما فرغ منها عطف منها إلى الأمم التي في وسط الأرض من الجن وسائر الإنس ويأجوج ومأجوج . فلما كان في بعض الطريق مما يلي منقطع أرض الترك نحو المشرق ،

قال له أمة من الإنس صالحة :.

يا ذا القرنين ، إن بين هذين الجبلين خلقاً من خلق الله . . . كثيراً فيهم مشابهة من الإنس ، وهم أشباه البهائم وهم يأكلون العشب ويفترسون الدواب والوحش كما يفترسها السباع ، ويأكلون خشاش الأرض كلها من الحيات والعقارب وكل ذي روح مما خلق الله في الأرض ،

وليس لله خلق ينمو نماءهم في العام الواحد ، ولا يزداد كزيادتهم ولا يكثر ككثرتهم ، فإن كانت لهم كثرة على ما يرى من نمائهم وزيادتهم ، فلا شك أنهم سيملأون الأرض ويجلون أهلها ويظهرون عليها فيفسدون فيها ،

وليست تمر بنا سنة منذ جاورناهم ورأيناهم إلا ونحن نتوقعهم وننظر أن يطلع إلينا أوائلهم من هذين الجبلين . . . فهل نجعل لك خرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سداً ؟ قال : ما مكني فيه ربي خير ، فأعينوني بقوّة أجعل بينكم وبينهم ردماً ، أغدو إلى الصخور والحديد والنحاس حتى أرتاد بلادهم وأعلم علمهم وأقيس ما بين جبليهم .

ثم انطلق يؤمهم…

حتى دفع إليهم وتوسط بلادهم ، فإذا هم على مقدار واحد . . . أنثاهم وذكرهم مبلغ طول الواحد منهم مثل نصف الرجل المربوع منا ، لهم مخاليب في مواضع الأظفار من أيدينا ،

ولهم أنياب وأضراس كأضراس السباع وأنيابها ، وأحناك كأحناك الإبل قوة ، يسمع له حركة إذا أكل كحركة الجرة من الإبل ، أو كقضم الفحل المسن أو الفرس.

، وهم صلب عليهم من الشعر في أجسادهم ما يواريهم وما يتقون به من الحر والبرد إذا أصابهم ، ولكل واحد منهم أذنان عظيمتان إحداهما وبرة ظهرها وبطنها ، والأخرى زغبة ظهرها وبطنها . .

تسعانه إذا لبسهما ، يلبس إحداهما ويفترش الأخرى ، ويصيف في إحداهما ويشتو في الأخرى ، وليس منهم ذكر ولا أنثى إلا وقد عرف أجله الذي يموت فيه ومنقطع عمره ، وذلك أنه لا يموت ميت من ذكورهم حتى يخرج من صلبه ألف ولد ، ولا تموت الأنثى حتى يخرج من رحمها ألف ولد.

، فإذا كان ذلك أيقن بالموت وتهيأ له . وهم يرزقون التنين في زمان الربيع ويستمطرونه إذا تحينوه كما يستمطر الغيث لحينه ، فيقذفون منه كل سنة بواحد فيأكلونه عامهم كله إلى مثلها من قابل

، فيعينهم على كثرتهم وما هم فيه ، فإذا أمطروا أخصبوا وعاشوا وسهئوا ورؤي أثره عليهم فدرت عليهم الإناث وشبقت منهم الذكور ، وإذا أخطأهم هزلوا وأحدثوا وجفلت منهم الذكور وأحالت الإناث وتبين أثر ذلك عليهم ، وهم يتداعون تداعي الحمام ويعوون عوي الذئاب ويتسافدون حيثما التقوا تسافد البهائم .

ثم لما عاين ذلك منهم ذو القرنين ..

انصرف إلى ما بين الصدفين فقاس ما بينهما – وهي في منقطع أرض الترك مما يلي الشمس – فوجد بعد ما بينهما مائة فرسخ ، فلما أنشأ في عمله حفر له أساساً حتى بلغ الماء ،

ثم جعل عرضه خمسين فرسخاً وجعل حشوه الصخور وطينه النحاس يذاب ثم يصب عليه ، فصار كأنه عرق من جبل تحت الأرض ، ثم علا وشرفه بزبر الحديد والنحاس المذاب ، وجعل خلاله عرقاً من نحاس أصفر فصار كأنه محبر من صفرة النحاس وحمرته وسواد الحديد

، فلما فرغ منه وأحكم انطلق عامداً إلى جماعة الإنس والجن ، فبينما هو يسير إذ رفع إلى أمة صالحة يهدون بالحق وبه يعدلون ، فوجد أمة مقسطة يقتسمون بالسوية ويحكمون بالعدل ويتأسون ويتراحمون . .

. حالهم واحدة وكلمتهم واحدة وأخلاقهم مشتبهة وطريقتهم مستقيمة وقلوبهم مؤتلفة وسيرتهم مستوية وقبورهم بأبواب بيوتهم ، وليس على بيوتهم أبواب وليس عليهم أمراء وليس بينهم قضاة وليس فيهم أغنياء ولا ملوك ولا أشراف ،

ولا يتفاوتون ولا يتفاضلون ولا يتنازعون ولا يستّبون ولا يقتتلون ولا يقحطون ولا يحردون ولا تصيبهم الآفات التي تصيب الناس ، وهم أطول الناس أعماراً وليس فيهم مسكين ولا فقير ولا فظ ولا غليظ .

فلما رأى ذلك ذو القرنين من أمرهم أعجب منهم وقال لهم : أخبروني أيها القوم خبركم ، فإني قد أحصيت الأرض كلها . . . برها وبحرها ، وشرقها وغربها ، ونورها وظلمتها . . .

فلم أجد فيها أحداً مثلكم . . .

! فأخبروني خبركم . قالوا : نعم ، سلنا عما تريد . قال : أخبروني ما بال قبوركم على أبواب بيوتكم ؟ قال : عمداً فعلنا ذلك ، لئلا ننسى الموت ولا يخرج ذكره من قلوبنا . قال : فما بال بيوتكم ليس عليها أبواب ؟

قالوا : ليس فينا متّهم وليس فينا إلا أمين مؤتمن . قال : فما بالكم ليس عليكم أمراء ؟ قالوا : ليس فينا مظالم . قال : فما بالكم ليس بينكم حكام ؟ قالوا : لا نختصم . قال : فما بالكم ليس فيكم أغنياء ؟

قالوا : لا نتكاثر . قال : فما بالكم ليس فيكم أشراف ؟ قالوا : لا نتنافس . قال : فما بالكم لا تتفاوتون ولا تتفاضلون ؟ قالوا : من قبل أنا متواصلون متراحمون

. قال : فما بالكم لا تتنازعون ولا تختلفون ؟ قالوا : من قبل ألفة قلوبنا وصلاح ذات بيننا . قال : فما بالكم لا تقتتلون ولا تستّبون ؟ قالوا : من قبل أنا غلبنا طبائعنا بالعزم وسُسْنا أنفسنا بالحلم .

قال : فما بال كلمتكم واحدة وطريقتكم مستقيمة ؟ قالوا : من قبل أنا لا نتكاذب ولا نتخادع ، فلا يغتاب بعضنا بعضاً . قال : فأخبروني من أين تشابهت قلوبكم واعتدلت سيرتكم ؟

قالوا : صحت صدورنا فنزع الله بذلك الغل والحسد من قلوبنا . قال : فما بالكم ليس فيكم مسكين ولا فقير ؟ قالوا : من قبل أنا نقسم بالسوية .

قال : فما بالكم ليس فيكم فظ ولا غليظ ؟ قالوا : من قبل الذل والتواضع . قال : فما بالكم جُعِلْتُم أطول الناس أعماراً ؟ قالوا : من قبل أنا نتعاطى الحق ونحكم بالعدل . قال : فما بالكم لا تقحطون ؟ قالوا : لا نغفل عن الاستغفار .

قال : فما بالكم لا تحردون ؟ قالوا : من قبل أنا وطّنا أنفسنا للبلاء منذ كنا ، وأحببناه وحرصنا عليه فعرينا منه . قال : فما بالكم لا تصيبكم الآفات كما تصيب الناس ؟ قالوا : لا نتوكل على غير الله ولا نعمل بأنواء النجوم .

قال : حدثوني . . . أهكذا وجدتم آبائكم يفعلون ؟ قالوا : نعم ، وجدنا آبائنا يرحمون مساكينهم ، ويواسون فقراءهم ويعفون عمن ظلمهم ، ويحسنون إلى من أساء إليهم
.

، ويحلمون على من جهل عليهم ، ويستغفرون لم سبهم ، ويصلون أرحامهم ، ويردون أماناتهم ، ويحفظون وقتهم لصلاتهم ، ويوفون بعهودهم ، ويصدقون في مواعيدهم ، ولا يرغبون عن أكفائهم ولا يستنكفون عن أقاربهم ، فأصلح الله بذلك أمرهم وحفظهم به ما كانوا أحياء ، وكان حقاً عليه أن يخلفهم في تركتهم .

قال لهم ذو القرنين :.

لو كنتُ مقيماً لأقمت فيكم ، ولكني لم أؤمر بالإقامة .

وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب قال : كان لذي القرنين صديق من الملائكة يقال له زرافيل ،

وكان لا يزال يتعاهده بالسلام ، فقال له ذو القرنين : يا زرافيل ، هل تعلم شيئاً يزيد في طول العمر لنزداد شكراً وعبادة ؟ قال : ما لي بذلك علم ، ولكن سأسأل لك عن ذلك في السماء . فعرج زرافيل إلى السماء فلبث ما شاء الله أن يلبث ثم هبط

، فقال : إني سألت عما سألتني عنه فأخبرت أن لله عيناً في ظلمة هي أشد بياضاً من اللبن وأحلى من الشهد ، من شرب منها شربة لم يمت حتى يكون هو الذي يسأل الله الموت . قال : فجمع ذو القرنين علماء الأرض إليه فقال : هل تعلمون أن لله عيناً في ظلمة ؟ فقالوا : ما نعلم ذلك .

فقام إليه رجل شاب فقال : وما حاجتك إليها أيها الملك ؟ قال : لي بها حاجة . قال : فإني أعلم مكانها . قال : ومن أين علمت مكانها ؟ قال : قرأت وصية آدم عليه السلام فوجدت فيها : إن لله عيناً خلف مطلع الشمس في ظلمة ، ماؤها أشد بياضاً من اللبن وأحلى من الشهد ، من شرب منها شربة لم يمت حتى يكون هو الذي يسأل الله الموت .

فسار ذو القرنين من موضعه..

الذي كان فيه اثنتي عشرة سنة حتى انتهى إلى مطلع الشمس ، عسكر وجمع العلماء فقال : إني أريد أن أسلك هذه الظلمة بكم ، فقالوا : إنا نعيذك بالله أن تسلك مسلكاً لم يسلكه أحد من بني آدم قط قبلك . قال : لا بد أن أسلكها . قالوا : إنا نعيذك أن تسلك بنا هذه الظلمة ، فإنا لا نأمن أن ينفتق علينا بها أمر يكون فيه فساد الأرض

. قال : لا بد أن أسلكها . قالوا : فشأنك . فسألهم أي الدواب أبصر ؟ قالوا : الخيل . قال : فأي الخيل أبصر ؟ قالوا : الإناث . قال : فأي الإناث أبصر ؟ قالوا : الأبكار . فانتقى ستة آلاف فرس أنثى بكر ثم انتخب من عسكره ستة آلاف رجل ، فدفع إلى كل رجل منهم فرساً ، وولى الخضر منها على ألفي فارس ثم جعله على مقدمته ، ثم قال : سرْ أمامي .

فقال له الخضر :.

أيها الملك ، إني لست آمن هذه الأمة الضلال فيتفرق الناس مني ، فدفع إليه خرزة حمراء فقال : إذا تفرق الناس فارم هذه الخرزة فإنها ستضيء لك وتصوت حتى تجمع إليك أهل الضلال ، واستخلف على الناس خليفة وأمره أن يقيم في عسكره اثنتي عشرة سنة

، فإن هو رجع إلى ذلك وإلا أمر الناس أن يتفرقوا في بلدانهم . ثم أمر الخضر فسار أمامه ، فكان الخضر إذا أتاه ذو القرنين رحل من منزله ونزل ذو القرنين في منزل الخضر الذي كان فيه ،

فبينا الخضر يسير في تلك الظلمة إذ تفرق الناس عنه ، فطرح الخرزة من يده فإذا هي على شفير العين والعين في وادٍ فأضاء له ما حول البئر ، فنزل الخضر ونزع ثيابه ودخل العين فشرب منها واغتسل ثم خرج ،

فجمع عليه ثيابه ثم أخذ الخرزة وركب وخالفه ذو القرنين في غير الطريق الذي أخذ فيه الخضر ، فساروا في تلك الظلمة في مقدار ست ليال وأيامهن ولم تكن ظلمة كظلمة الليل

، إنما كانت ظلمة كهيئة ضباب حتى خرجوا إلى أرض ذات نور ليس فيها شمس ولا قمر ولا نجم ، فعسكر ثم نزل الناس ثم ركب ذو القرنين وحده فسار حتى انتهى إلى قصر طوله فرسخ في فرسخ ، فدخل القصر فإذا هو بعمود على حافتي القصر ، وإذا طائر مذموم . . .

بأنفه سلسلة معلقة في ذلك العود شبه الخطاف أو قريب من الخطاف ، فقال له الطير : من أنت ؟ قال أنا ذو القرنين . قال له الطير : يا ذا القرنين ، أما كفاك ما وراءك حتى تناولت الظلمة ؟ أنبئني يا ذا القرنين.

قال : سل . قال : هل كثر بنيان من الجص والآجر في الناس ؟ قال : نعم . فانتفخ الطير حتى سد ثلث ما بين الحائطين ، ثم قال : يا ذا القرنين أنبئني . قال : سل . قال : هل كثرت المعازف في الناس ؟

قال : نعم . فانتفخ حتى سد ثلثي ما بين الحائطين ، ثم قال : يا ذا القرنين ، أنبئني . قال : سل . قال : هل كثرت شهادة الزور في الناس ؟ قال : نعم . فانتفخ حتى سد ما بين الحائطين ، واجث ذو القرنين منه فرقاً ،

قال له الطير : يا ذا القرنين ، لا تخف . . . أنبئني . قال : سل . قال : هل ترك الناس شهادة أن لا إله إلا الله ؟ قال : لا . قال : هل ترك الناس الغسل من الجنابة ؟

قال : لا . قال : فانضم ثلثاه . قال : يا ذا القرنين ، أنبئني . قال : سل . قال : هل ترك الناس المكتوبة ؟ قال : لا . . . فانضم الطير حتى عاد كما كان ،

ثم قال : يا ذا القرنين ،.

انطلق إلى تلك الدرجة فاصعدها فإنك ستلقى من تسأله ويخبرك . فسار حتى انتهى إلى درجة مدرجة فصعد عليها فإذا هو بسطح ممدود لا يرى طرفاه ، وإذا رجل شاب قائم شاخص ببصره إلى السماء واضع يده على فمه قد قدم رجلاً وأخر أخرى

، فسلم عليه ذو القرنين فرد عليه السلام ثم قال له : من أنت ؟ قال : أنا ذو القرنين . قال : يا ذا القرنين ، أما كفاك ما وراءك حتى قطعت الظلمة ووصلت إلي ؟

قال : ومن أنت ؟ قال : أنا صاحب الصور ، قد قدمت رجلاً وأخرت أخرى ووضعت الصور على فمي ، وأنا شاخص ببصري إلى السماء أنتظر أمر ربي ، ثم تناول حجراً فدفعه فقال : انصرف ، فإن هذا الحجر سيخبرك بتأويل ما أردت .

فانصرف ذو القرنين حتى أتى عسكره فنزل وجمع إليه العلماء فحدثهم بحديث القصر وحديث العمود والطير وما قال له وما رد عليه ، حديث صاحب الصور وأنه قد دفع إليه هذا الحجر وقال : إنه سيخبرني بتأويل ما جئت به ، فأخبروني عن هذا الحجر ، ما هو وأي شيء أراد بهذا ؟

قال : فدعوا بميزان ووضع حجر صاحب الصور في إحدى الكفتين ووضع حجر مثله في الكفة الأخرى فرجح به ، ثم وضع معه حجر آخر رجح به ، ثم وضع مائة حجر فرجح بها حتى وضع ألف حجر فرجح بها

، فقال ذو القرنين :.

هل عند أحد منكم في هذا الحجر من علم ؟ قال – والخضر قاعد بحاله لا يتكلم – فقال له : يا خضر ، هل عندك في هذا الحجر من علم ؟ قال : نعم . قال : وما هو ؟

قال الخضر : أيها الملك ، إن الله ابتلى العالم بالعالم وابتلى الناس بعضهم ببعض ، وإن الله ابتلاك بي وابتلاني بك . فقال له ذو القرنين : ما أراك إلا قد ظفرت بالأمر الذي جئت أطلبه . قال له الخضر : قد كان ذلك .

قال : فائتني . فأخذ الميزان ووضع حجر صاحب الصور في إحدى الكفتين ووضع في الكفة الأخرى حجراً ، وأخذ قبضة من تراب فوضعها مع الحجر ثم رفع الميزان فرجح الحجر الذي معه التراب على حجر صاحب الصور.

فقالت العلماء : سبحان الله ربنا . . . ! وضعنا مع ألف حجر فمال بها ، ووضع الخضر معه حجراً واحداً وقبضة من تراب فمال به . . . ! ! فقال له ذو القرنين : أخبرني بتأويل هذا . قال : أخبرك . . .

إنك مكنت من مشرق الأرض ومغربها فلم يكفك ذلك حتى تناولت الظلمة حتى وصلت إلى صاحب الصور ، وإنه لا يملأ عينك إلا التراب.

. قال : صدقت . ورحل ذو القرنين فرجع في الظلمة راجعاً ، فجعلوا يسمعون خشخشة تحت سنابك خيلهم فقالوا : أيها الملك ، ما هذه الخشخشة التي نسمع تحت سنابك خيلنا ؟ قال : من أخذ منه ندم ومن تركه ندم

، فأخذت منه طائفة وتركت طائفة ، فلما برزوا به إلى الضوء نظروا فإذا هو بالزبرجد ، فندم الآخذ أن لا يكون ازداد وندم التارك أن لا يكون أخذ .

فقال النبي صلى الله عليه وسلم :

«رحم الله أخي ذا القرنين ، دخل الظلمة وخرج منها زاهداً . أما إنه لو خرج منها راغباً لما ترك منها حجراً إلا أخرجه » .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «فأقام بدومة الجندل فعبد الله فيها حتى مات » .

ولفظ أبي الشيخ قال أبو جعفر : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «رحم الله أخي ذا القرنين ، لو ظفر بالزبرجد في مبداه ما ترك منه شيئاً حتى يخرجه إلى الناس ، لأنه كان راغباً في الدنيا ، ولكنه ظفر به وهو زاهد في الدنيا لا حاجة له فيها » .

وأخرج ابن إسحق والفريابي وابن أبي الدنيا في كتاب من عاش بعد الموت ، وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، أن سئل عن ذي القرنين فقال : كان عبداً أحب الله فأحبه ، وناصح الله فناصحه ،

فبعثه إلى قوم يدعوهم إلى الله فدعاهم إلى الله وإلى الإسلام ، فضربوه على قرنه الأيمن فمات ، فأمسكه الله ما شاء ثم بعثه . فأرسله إلى أمة أخرى يدعوهم إلى الله وإلى الإسلام فضربوه على قرنه الأيسر فمات ، فأمسكه الله ما شاء ثم بعثه فسخر له السحاب وخيّره فيه فاختار صعبه على ذلوله – وصعبه الذي لا يمطر – وبسط له النور ومدّ له الأسباب وجعل الليل والنهار عليه سواء ، فبذلك بلغ مشارق الأرض ومغاربها .

وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة رضي الله عنه ،

أن ذا القرنين لما بلغ الجبل الذي يقال له قاف ، ناداه ملك من الجبل : أيها الخاطئ ابن الخاطئ ، جئت حيث لم يجئ أحد من قبلك ولا يجيء أحد بعدك

. فأجابه ذو القرنين : وأين أنا ؟ قال له الملك : أنت في الأرض السابعة . فقال ذو القرنين : ما ينجيني ؟ فقال : ينجيك اليقين . فقال ذو القرنين : اللهم ارزقني يقيناً . فأنجاه الله . قال له الملك : إنه ستأتي إلى قوم فتبني لهم سداً ، فإذا أنت بنيته وفرغت منه فلا تحدث نفسك أنك بنيته بحول منك أو قوة ، فيسلط الله على بنيانك أضعف خلقه فيهدمه .

ثم قال له ذو القرنين : ما هذا الجبل ؟ قال : هذا الجبل الذي يقال له قاف ، وهو أخضر والسماء بيضاء وإنما خضرتها من هذا الجبل ، وهذا الجبل أم الجبال والجبال كلها من عروقه ، فإذا أراد الله أن يزلزل قرية حرك منه عرقاً . ثم إن الملك ناوله عنقوداً من عنب وقال له : حبة ترويك وحبة تشبعك ، وكلما أخذت منه حبة عادت مكانها حبة .

ثم خرج من عنده فجاء البنيان الذي أراد الله ، فقالوا له : { يا ذا القرنين ، إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض } إلى قوله : { اجعل بينكم وبيهنم ردماً } .

قال عكرمة رضي الله عنه :

هم منسك وناسك وتأويل وراحيل . وقال أبو سعيد رضي الله عنه : هم خمسة وعشرون قبيلة من وراء يأجوج ومأجوج .

وأخرج الحاكم عن معاوية رضي الله عنه قال : ملك الأرض أربعة : سليمان وذو القرنين ورجل من أهل حلوان ورجل آخر . فقيل له : الخضر ؟ قال : لا .

وأخرج ابن أبي حاتم وابن عساكر ، عن مجاهد رضي الله عنه قال : إن ذا القرنين ملك الأرض كلها إلا بلقيس صاحبة مأرب ، فإذا ذا القرنين كان يلبس ثياب المساكين ثم يدخل المدائن فينظر من عورتها قبل أن يقتل أهلها فأخبرت بذلك بلقيس فبعثت رسولاً ينظر إليه فيصوّر لها صورته في ملكه حين يقعد ، وصورته في ثياب المساكين .

ثم جعلت كل يوم تطعم المساكين وتجمعهم ، فجاءها رسولها في صورته فجعلت إحدى صورتيه تليها والأخرى على باب الأسطوانة ، فكانت تطعم المساكين كل يوم ، فإذا فرغوا عرضتهم واحداً واحداً فيخرجون ، حتى جاء ذو القرنين في ثياب المساكين فدخل مدينتها

ثم جلس مع المساكين إلى طعامها ، فقربت إليهم الطعام فلما فرغوا أخرجتهم واحداً واحداً وهي تنظر إلى صورته في ثياب المساكين ، حتى مر ذو القرنين فنظرت إلى صورته فقالت : أجلسوا هذا وأخرجوا من بقي من المساكين .

فقال لها : لم أجلستني وإنما أنا مسكين . . . ! ؟ قالت : لا . . . أنت ذو القرنين ، هذه صورتك في ثياب المساكين ، والله لا تفارقني حتى تكتب لي أماناً بملكي أو أضرب عنقك . فلما رأى ذلك كتب لها أماناً فلم ينج أحد منه غيرها .

وأخرج ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه رضي الله عنه قال : .

ملك ذو القرنين اثنتي عشرة سنة .

وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة ، عن عبيد الله بن أبي جعفر رضي الله عنه قال : كان ذو القرنين في بعض مسيره فمر بقوم قبورهم على أبواب بيوتهم ، وإذا ثيابهم لون واحد وإذا هم رجال كلهم ليس فيهم امرأة ، فتوسم رجلاً منهم فقال له : لقد رأيت شيئاً ما رأيت في شيء من مسيري . . .

! قال : وما هو ؟ فوصف له ما رأى منهم . قالوا : أما هذه القبور على أبوابنا ، فإنا جعلناها موعظة لقلوبنا تخطر على قلب أحدنا الدنيا فيخرج فيرى القبور ويرجع إلى نفسه فيقول : إلى هذا المصير وإليها صار من كان قبلي .

وأما هذه الثياب ، فإنه لا يكاد الرجل منا يلبس ثياباً أحسن من صاحبه إلا رأى له بذلك فضلاً على جليسه .

وأما قولك : رجال كلكم ليس معكم نساء ، فلعمري لقد خلقنا من ذكر وأنثى ، ولكن هذا القلب لا يشغل بشيء إلا شغل به ، فجعلنا نساءنا وذريتنا في قرية قريبة وإذا أراد الرجل من أهله ما يريد الرجل ، أتاها فكان معها الليلة والليلتين ثم يرجع إلى ما ههنا ، لأنا خلونا ههنا للعبادة .

فقال : ما كنت لأعظكم بشيء أفضل مما وعظتم به أنفسكم ، سلني ما شئت . قال : من أنت ؟ قال أنا ذو القرنين . قال : ما أسألك وأنت لا تملك لي شيئاً ؟ قال : وكيف وقد آتاني الله من كل شيء سبباً ؟ قال : أتقدر على أن تأتيني بما لم يقدر لي ولا تصرف عني ما قدر لي ؟

وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن وهب بن منبه رضي الله عنه قال : لما بلغ ذو القرنين مطلع الشمس قال له ملكها : يا ذا القرنين ، صف لي الناس . قال : إن محادثتك من لا يعقل بمنزلة من يضع الموائد لأهل القبور ، ومحادثتك من يعقل بمنزلة من يبلّ الصخرة حتى تبتل ، أو يطبخ الحديد يلتمس أدمه ونقل الحجارة من رؤوس الجبال ، أيسر من محادثتك من لا يعقل .