غزوة تبوك. الأسباب و النتائج.
كانت غزوة تبوك في شهر رجب من السنة التاسعة للهجرة..
إن غزوة فتح مكة كانت غزوة فاصلة بين الحق والباطل :
لم يبق بعدها مجال للريبة والظن في رسالة محمد عليه الصلاة والسلام عند العرب.
، و لذلك انقلب المجرى تماما، و دخل الناس في دين الله أفواجا- كما سيظهر ذلك مما تقدمه في فصل الوفود،. ومن العدد الذي حضر في حجة الوداع-.
و انتهت المتاعب الداخلية واستراح المسلمون، لتعليم شرائع الله، وبث دعوة الإسلام.
أسباب غزوة تبوك..
كانت هناك قوة تعرضت للمسلمين من غير مبرر، وهي قوة الرومان-.
كانت أكبر قوة عسكرية ظهرت على وجه الأرض في ذلك الزمان-.
و كانت بداية هذا التعرض بقتل سفير رسول الله الحارث بن عمير الأزدي على يدي شرحبيل بن عمرو الغساني،.
حينما كان السفير يحمل رسالة النبي عليه الصلاة والسلام إلى عظيم بصرى..
وأن النبي أرسل بعد ذلك سرية زيد بن حارثة التي اصطدمت بالرومان اصطداما عنيفا في مؤتة،. و لم تنجح في أخذ الثأر من أولئك الظالمين المتغطرسين،.
إلا أنها تركت أروع أثر في نفوس العرب، قريبهم و بعيدهم.
ولم يكن قيصر ليصرف نظره عما كان لمعركة مؤتة من الأثر الكبير لصالح المسلمين،. و عما كان يطمح إليه بعد ذلك كثير من قبائل العرب من استقلالهم عن قيصر، ومواطأتهم للمسلمين،.
إن هذا كان خطرا يتقدم و يخطو إلى حدوده خطوة بعد خطوة، ويهدد الثغور الشامية التي تجاوز العرب،.
فكان يرى أنه يجب القضاء على قوة المسلمين قبل أن تتجسد في صورة خطر عظيم لا يمكن القضاء عليها،.
و قبل أن تثير القلاقل و الثورات في المناطق العربية المجاورة للرومان..
ونظرا إلى هذه المصالح لم يقض قيصر بعد معركة مؤتة سنة كاملة،. حتى أخذ يهيء الجيش من الرومان و العرب التابعة لهم من آل غسان وغيرهم، و بدأ يجهز لمعركة دامية فاصلة.
غزوة تبوك _استعداد الرومان وغسان..:
كانت الأنباء تترامى إلى المدينة بإعداد الرومان للقيام بغزوة حاسمة ضد المسلمين، حتى كان الخوف يتسورهم كل حين،.
لا يسمعون صوتا غير معتاد إلا و يظنونه زحف الرومان،. و يظهر ذلك جليا مما وقع لعمر بن الخطاب،.
فقد كان النبي صلوات الله عليه آلى من نسائه شهرا في هذه السنة (التاسعة هـ).
و كان هجرهن و اعتزل عنهن في مشربة له، و لم يفطن الصحابة إلى حقيقة الأمر في بدايته..
فظنوا أن النبي قد طلقهن، فسرى فيهم الهم والحزن و القلق،.
يقول عمر بن الخطاب- وهو يروي هذه القصة -:
و كان لي صاحب من الأنصار إذا غبت أتاني بالخبر، وإذا غاب كنت آتيه أنا بالخبر-.
وكانا يسكنان في عوالي المدينة، يتناوبان إلى النبي و نحن نتخوف ملكا من ملوك غسان ذكر لنا أنه يريد أن يسير إلينا..
فقد امتلأت صدورنا منه، فإذا صاحبي الأنصاري يدق الباب، فقال : افتح، افتح، فقلت : جاء الغساني؟.
فقال : بل أشد من ذلك، اعتزل رسول الله أزواجه. الحديث.
وفي لفظ آخر (أنه قال) : وكنا تحدثنا أن آل غسان تنعل النعال لغزونا، فنزل صاحبي يوم نوبته،. فرجع عشاء، فضرب بابي ضربا شديدا، وقال : أنائم هو؟ ففزعت، فخرجت إليه،..
و قال : حدث أمر عظيم. فقلت : ما هو؟ أجاءت غسان؟.
قال : لا بل أعظم منه وأطول، طلق رسول الله ﷺ نساءه.
الحديث .
و هذا يدل على خطورة الموقف. الذي كان يواجهه المسلمون بالنسبة إلى الرومان.
غزوة تبوك..
و يزيد ذلك تأكدا ما فعله المنافقون حينما نقلت إلى المدينة أخبار إعداد الرومان،.
فبرغم ما رآه هؤلاء المنافقون من نجاح رسول الله في كل الميادين، وأنه لا يوجل من سلطان على ظهر الأرض،.
بل يذيب كل ما يعترض في طريقه من عوائق، برغم هذا كله طفق هؤلاء المنافقون يأملون في تحقق ما كانوا يخفونه في صدورهم،.. وما كانوا يتربصونه من الشر بالإسلام وأهله.
و نظرا إلى قرب تحقق آمالهم أنشأوا وكرة للدس والتامر، في صورة مسجد، وهو مسجد الضرار،..
أسسوه كفرا و تفريقا بين المؤمن و إرصادا لمن حارب الله ورسوله، .. و عرضوا على رسول الله أن يصلي فيه،..
وإنما مرامهم بذلك أن يخدعوا المؤمنين، فلا يفطنوا ما يؤتي به في هذا المسجد من الدس والمؤامرة ضدهم،. ولا يلتفتوا إلى من يرده ويصدر عنه، فيصير وكرة مأمونة لهؤلاء المنافقين ولرفقائهم في الخارج،.
لكن رسول الله أخر الصلاة فيه- إلى قفوله من الغزوة- لشغله بالجهاز،.
ففشلوا في مرامهم و فضحهم الله، حتى قام الرسول بهدم المسجد بعد القفول من الغزو، بدل أن يصلي فيه..
الأخبار الخاصة عن استعداد الرومان وغسان :..
كانت هذه هي الأحوال و الأخبار التي يواجهها و يتلقاها المسلمون،. إذ بلغهم من الأنباط الذي يقدمون بالزيت من الشام إلى المدينة أن هرقل قد هيأ جيشا عرموما قوامه أربعون ألف مقاتل،.
و أعطى قيادته لعظيم من عظماء الروم، و أنه أجلب معهم قبائل لخم وجزام وغيرهما من متنصرة العرب،..
وأن مقدمتهم بلغت إلى البلقاء. وهكذا تمثل أمام المسلمين خطر كبير.
زيادة خطورة الموقف :..
و الذي كان يزيد خطورة الموقف أن الزمان كان فصل القيظ الشديد،. حيث كان الناس في عسرة وجدب من البلاء وقلة من الظهر،.
فكانت الثمار قد طابت، فكانوا يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم،.
و يكرهون الشخوص على الحال، من الزمان الذي هم فيه، ومع هذا كله كانت المسافة بعيدة، والطريق وعرة صعبة.
لكن الرسول صلي الله عليه وسلم كان ينظر إلى الظروف و التطورات بنظر أدق وأحكم من هذا كله..
إنه كان يرى أنه لو توانى و تكاسل عن غزو الرومان في هذه الظروف الحاسمة،. و ترك الرومان لتجوس خلال المناطق التي كانت تحت سيطرة الإسلام ونفوذه، وتزحف إلى المدينة.
كان له أسوأ أثر على الدعوة الإسلامية، و على سمعة المسلمين العسكرية،.
فالجاهلية التي تلفظ نفسها الأخير بعد ما لقيت من الضربة القاسمة في حنين ستحيا مرة أخرى،..
و المنافقون الذي يتربصون الدوائر بالمسلمين،. ويتصلون بملك الرومان بواسطة أبي عامر الفاسق سيبعجون بطون المسلمين بخناجرهم من الخلف،.
في حين تهجم الرومان بحملة ضارية ضد المسلمين من الأمام، و هكذا يخفق كثير من الجهود التي بذلها هو وأصحابه في نشر الإسلام،.
وتذهب المكاسب التي حصلوا عليها بعد حروب دامية ودوريات عسكرية متتابعة متواصلة … تذهب هذه المكاسب بغير جدوى.
كان رسول الله يعرف كل ذلك جيدا، و لذلك قرر القيام- مع ما كان فيه من العسرة والشدة- . بغزوة فاصلة يخوضها المسلمون ضد الرومان في حدودهم، ولا يمهلونهم حتى يزحفوا إلى دار الإسلام.
الإعلان بالتهيؤ لقتال الرومان..
و لما قرر رسول الله الموقف أعلن في الصحابة أن يتجهزوا للقتال،..
وبعث إلى القبائل من العرب و إلى أهل مكة يستنفرهم،. وكان قل ما يريد غزوة يغزوها إلا ورى بغيرها،.
لكنه نظرا إلى خطورة الموقف وإلى شدة العسرة أعلن أنه يريد لقاء الرومان. وجلى للناس أمرهم، ليتأهبوا أهبة كاملة، وحضهم على الجهاد،..
ونزلت قطعة من سورة براءة تثيرهم على الجلاد، وتحثهم على القتال..
كذلك رغبهم رسول الله في بذل الصدقات، وإنفاق كرائم الأموال في سبيل الله.
المسلمون يتسابقون إلى التجهز للغزو..
لم يكن من المسلمين أن سمعوا صوت رسول الله يدعو إلى قتال الروم إلا وتسابقوا إلى امتثاله،.
فقاموا يتجهزون للقتال بسرعة بالغة، و أخذت القبائل والبطون تهبط إلى المدينة من كل صوب وناحية..
، و لم يرض أحد من المسلمين أن يتخلف عن هذه الغزوة- إلا الذين في قلوبهم مرض وإلا ثلاثة نفر-..
حتى كان يجيء أهل الحاجة والفاقة يستحملون رسول الله ليخرجوا إلى بقتال الروم، فإذا قال لهم :.. لا أجِدُ ما أحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ
تَوَلَّوْا وأعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا ألّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ»
[التوبة ٩٢]..
كما تسابق المسلمون في إنفاق الأموال وبذل الصدقات.
كان عثمان بن عفان قد جهز عيرا للشام، مائتا بعير بأقتابها وأحلاسها، ومائتا أوقية،..
فتصدق بها ثم تصدق بمائة بعير بأحلاسها وأقتابها، ثم جاء بألف دينار فنثرها في حجره عليه الصلاة و السلام..
، فكان رسول الله يقلبها ويقول : «ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم» ،.
ثم تصدق و تصدق، حتى بلغ مقدار صدقته تسعمائة بعير ومائة فرس سوى النقود..
و جاء عبد الرحمن بن عوف بمائتي أوقية فضة، وجاء أبو بكر بماله كله، ولم يترك لأهله إلا الله ورسوله-. وكانت أربعة آلاف درهم،..
و هو أول من جاء بصدقته، وجاء عمر بنصف ماله، وجاء العباس بمال كثير، وجاء طلحة وسعد بن عبادة ومحمد بن مسلمة..
غزوة تبوك..
، كلهم جاؤا بمال، وجاء عاصم بن عدي بتسعين وسقا من التمر، وتتابع الناس بصدقاتهم قليلها وكثيرها،..
حتى كان منهم من أنفق مدا أو مدين لم يكن يستطيع غيرها . ؛ وبعثت النساء ما قدرن عليه من مسك ومعاضد وخلاخل وقرط وخواتم.
ولم يمسك أحد يده، ولم يبخل بماله إلا المنافقون الَّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطَّوِّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ، والَّذِينَ لا يَجِدُونَ إلّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنهُمْ [التوبة ٧٩].
الجيش الإسلامي إلى تبوك..
و هكذا تجهز الجيش، فاستعمل رسول الله على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري،. وقيل سباع بن عرفطة، وخلف على أهله علي بن أبي طالب،..
فأمره بالإقامة فيهم، وغمص عليه المنافقون، فخرج فلحق برسول الله فرده إلى المدينة وقال : «ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي»..
ثم تحرك رسول الله نحو الشمال يريد تبوك، و لكن الجيش كان كبيرا- ثلاثون ألف مقاتل،..
لم يخرج المسلمون في مثل هذا الجمع الكبير قبله قط- فلم يستطع المسلمون مع ما بذلوه من الأموال أن يجهزوه تجهيزا كاملا..
بل كانت في الجيش قلة شديدة بالنسبة إلى الزاد والمراكب، فكان ثمانية عشر رجلا يعتقبون بعيرا واحدا،..
وربما أكلوا أوراق الأشجار حتى تورمت شفاههم، واضطروا إلى ذبح العير- مع قلتها- ليشربوا ما في كروشها من الماء، . ولذلك سمي هذا
الجيش : جيش العسرة..
ومر الجيش الإسلامي في طريقه إلى تبوك بالحجر- ديار ثمود الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالوادِ، أي وادي القرى-..
في الطريق الي تبوك..
فاستقى الناس من بئرها، فلما راحوا قال رسول الله : «لا تشربوا من مائها ولا تتوضأوا منه للصلاة. وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل،.
ولا تأكلوا منه شيئا، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها ناقة صالح عليه السلام».
وفي الصحيحين عن ابن عمر قال ؛ لما مر النبي بالحجر .
قال : «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم، إلا أن تكونوا باكين، ثم قنع رأسه وأسرع بالسير حتى جاز الوادي»..
واشتدت في الطريق حاجة الجيش إلى الماء حتى شكوا إلى رسول الله . ، فدعا الله، فأرسل الله سحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس، واحتملوا حاجاتهم من الماء.
فلما قرب من تبوك قال : «إنكم ستأتون غدا إن شاء الله تعالى عين تبوك، وإنكم لم تأتوها حتى يضحى النهار،. فمن جاءها فلا يمس من مائها شيئا حتى آتي».
قال معاذ : فجئنا و قد سبق إليها رجلان، و العين تبض بشيء من مائها، فسألهما رسول الله : هل مسستما من مائها شيئا؟.
قالا : نعم. و قال لهما ما شاء الله أن يقول، ثم غرف من العين قليلا قليلا حتى اجتمع الوشل،.
ثم غسل رسول الله فيه وجهه ويده، ثم أعاده فيها فجرت العين بماء كثير فاستقى الناس، ثم قال رسول الله : «يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما ههنا قد ملئ جنانا»..
وفي الطريق أو لما بلغ تبوك- على اختلاف الروايات-.
قال رسول الله «تهب عليكم الليلة ريح شديدة، فلا يقم أحد منكم،. فمن كان له بعير فليشد عقاله»، فهبت ريح شديدة، فقام رجل فحملته الريح حتى ألقته بجبلي طىء..
و كان دأب رسول الله ﷺ في الطريق أنه كان يجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء جمع التقديم وجمع التأخير كليهما.
الجيش الإسلامي بتبوك..
نزل الجيش الإسلامي بتبوك، فعسكر هناك، وهو مستعد للقاء العدو،. و قام رسول الله فيهم خطيبا، فخطب خطبة بليغة،.
أتى بجوامع الكلم، و حض على خير الدنيا والآخرة، و حذر وأنذر، و بشر وأبشر، حتى رفع معنوياتهم،. وجبر بها ما كان فيهم من النقص والخلل من حيث قلة الزاد والمادة والمؤنة..
أما الرومان و حلفاؤهم فلما سمعوا بزحف رسول الله ﷺ أخذهم الرعب فلم يجترئوا على التقدم واللقاء..
، بل تفرقوا في البلاد في داخل حدودهم، فكان لذلك أحسن أثر بالنسبة إلى سمعة المسلمين العسكرية،. في داخل الجزيرة وأرجائها النائية..
وحصل بذلك المسلمون على مكاسب سياسية كبيرة خطيرة،.
بما لم يكونوا يحصلون عليها لو وقع هناك اصطدام بين الجيشين.
جاء يحنة بن روبة صاحب أيلة، فصالح الرسول وأعطاه الجزية، وأتاه أهل جرباء وأهل أذرح،.
فأعطوه الجزية، وكتب لهم رسول الله كتابا فهو عندهم،.
و كتب لصاحب أيلة : «بسم الله الرحمن الرحيم، هذه أمنة من الله و محمد النبي رسول الله ليحنة بن روبة وأهل أيلة، . سفنهم وسياراتهم في البر والبحر لهم ذمة الله وذمة محمد النبي، ..
غزوة تبوك..
ومن كان معه من أهل الشام وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثا، فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه طيب لمن أخذه من الناس،.
وأنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه، ولا طريقا يريدونه من بر أو بحر».
وبعث رسول الله خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة الجندل في أربعمائة وعشرين فارسا،.
وقال له : «إنك ستجده يصيد البقر» فأتاه خالد، فلما كان من حصنه بمنظر العين، خرجت بقرة، تحك بقرونها باب القصر،.
فخرج أكيدر لصيده- و كانت ليلة مقمرة- فتلقاه خالد في خلية، فأخذه وجاء به إلى رسول الله فحقن دمه،. وصالحه على ألفي بعير، وثمانمائة رأس، وأربعمائة درع، وأربعمائة رمح، وأقر بإعطاء الجزية، فقاضاه مع يحنة على قضية دومة وتبوك وأيلة وتيماء..
وأيقنت القبائل التي كانت تعمل لحساب الرومان أن اعتمادها على سادتها الأقدمين قد فات أوانه،.
فانقلبت لصالح المسلمين، و هكذا توسعت حدود الدولة الإسلامية، حتى لاقت حدود الرومان مباشرة، وشهد عملاء الرومان نهايتهم إلى حد كبير
الرجوع من غزوة تبوك إلى المدينة..
ورجع الجيش الإسلامي من تبوك مظفرين منصورين، لم ينالوا كيدا، وكفى الله المؤمنين القتال،.
في الطريق عند عقبة حاول اثنا عشر رجلا من المنافقين الفتك بالنبي ، وذلك أنه حينما كان يمر بتلك العقبة كان معه عمار يقود بزمام ناقته،. وحذيفة بن اليمان يسوقها، وأخذ الناس ببطن الوادي،.
فانتهز أولئك المنافقون هذه الفرصة، فبينما رسول الله وصاحباه يسيران إذ سمعوا وكزة القوم من ورائهم،. قد غشوه وهم ملتثمون..
، فبعث حذيفة فضرب وجوه رواحلهم بمحجن كان معه، فأرعبهم الله، فأسرعوا في الفرار حتى لحقوا بالقوم،.
وأخبر رسول الله بأسمائهم، وبما هموا به، فلذلك كان حذيفة يسمى بصاحب سر رسول الله ، وفي ذلك يقول الله تعالى : وهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا…
و لما لاحت للنبي معالم المدينة من بعيد قال : «هذه طابة، وهذا أحد، جبل يحبنا ونحبه».
تسامع الناس بمقدمة، فخرج النساء والصبيان والولائد يقابلن الجيش بحفاوة بالغة ويقلن :.
طلع البدر علينا … من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا … ما دعا لله داع..
وكان خروجه إلى تبوك في رجب وعوده في رمضان،.
واستغرقت هذه الغزوة خمسين يوما . أقام منها عشرين يوما في تبوك. والبواقي قضاها في الطريق جيئة وذهابا
وكانت هذه الغزوة آخر غزواته صلوات الله سلامه عليه .
المخلفون عن غزوة تبوك..
وكانت هذه الغزوة- لظروفها الخاصة بها- اختبارا شديدا من الله تعالى، امتاز به المؤمنون من غيرهم. كما هو دأبه تعالى في مثل هذه المواطن،.
حيث يقول : ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلى ما أنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران ١٧٩].
فقد خرج لهذه الغزوة كل من كان مؤمنا صادقا، حتى صار التخلف أمارة على نفاق الرجل، . فكان الرجل إذا تخلف وذكروه لرسول الله قال لهم :..
«دعوه، فإن يكن فيه خير سيلحقه الله بكم، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم منه»، فلم يتخلف إلا من حبسهم العذر، . أو الذين كذبوا الله ورسوله من المنافقين، الذين قعدوا بعد أن استأذنوا للقعود كذبا،.
أو قعدوا ولم يستأذنوا رأسا. نعم كان هناك ثلاثة نفر من المؤمنين الصادقين تخلفوا من غير مبرر. وهم الذين أبلاهم الله، ثم تاب عليهم.
ولما دخل رسول الله المدينة بدأ بالمسجد، فصلى فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فأما المنافقون- وهم بضعة وثمانون رجلا..
فجاؤوا يعتذرون بأنواع شتى من الأعذار، وطفقوا يحلفون له، فقبل منهم علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله.
الثلاثة المخلفون عن غزوة تبوك..
وأما النفر الثلاثة من المؤمنين الصادقين- وهم كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية..
فاختاروا الصدق، فأمر رسول الله الصحابة ألا يكلموا هؤلاء الثلاثة، وجرت ضد هؤلاء الثلاثة مقاطعة شديدة.
، وتغير لهم الناس، حتى تنكرت لهم الأرض، وضاقت عليهم بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، .
وبلغت بهم الشدة أنهم بعد أن قضوا أربعين ليلة من بداية المقاطعة أمروا أن يعتزلوا نساءهم، حتى تمت على مقاطعتهم خمسون ليلة،.
ثم أنزل الله توبتهم وعَلى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتّى إذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِما رَحُبَتْ، وضاقَتْ عَلَيْهِمْ أنْفُسُهُمْ وظَنُّوا أنْ لا مَلْجَأ مِنَ اللَّهِ إلّا إلَيْهِ، ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا، إنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ [التوبة ١١٨]..
وفرح المسلمون، وفرح الثلاثة فرحا لا يقاس مداه وغايته، فبشروا وأبشروا واستبشروا وأجازوا وتصدقوا،.
فكان أسعد يوم من أيام حياتهم.
وأما الذين حبسهم العذر فقد قال تعالى فيهم : لَيْسَ عَلى الضُّعَفاءِ ولا عَلى المَرْضى ولا عَلى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إذا نَصَحُوا لِلَّهِ ورَسُولِهِ، الآيتين [التوبة ٩١، ٩٢] .
وقال فيهم رسول الله حين دنا من المدينة : «إن بالمدينة رجالا ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم، حبسهم العذر»، .
قالوا : يا رسول الله، وهم بالمدينة؟ قال : وهم بالمدينة.
أثر غزوة تبوك علي نفوس المسلمين..
وكان لهذه الغزوة أعظم أثر في بسط نفوذ المسلمين وتقويته على جزيرة العرب، . فقد تبين للناس أنه ليس لأي قوة من القوات أن تعيش في العرب سوى قوة الإسلام، وبطلت بقايا أمل وأمنية كانت تتحرك في قلوب بقايا الجاهلين والمنافقين.
الذين كانوا يتربصون الدوائر بالمسلمين، وكانوا قد عقدوا آمالهم بالرومان، فقد استكانوا بعد هذه الغزوة، . واستسلموا للأمر الواقع، الذي لم يجدوا عنه محيدا ولا مناصا..
ولذلك لم يبق للمنافقين أن يعاملهم المسلمون بالرفق واللين، وقد أمر الله بالتشديد عليهم، حتى نهى عن قبول صدقاتهم، .
وعن الصلاة عليهم، والاستغفار لهم، والقيام على قبرهم، وأمر بهدم وكرة دسهم وتامرهم التي بنوها باسم المسجد، . وأنزل فيهم آيات افتضحوا بها افتضاحا تاما،.
لم يبق في معرفتهم بعدها أي خفاء، كأن الآيات قد نصت على أسمائهم لمن يسكن المدينة.
ويعرف مدى أثر هذه الغزوة من أن العرب وإن كانت قد أخذت في التوافد إلى رسول الله بعد غزوة فتح مكة ؛ بل وما قبلها؛.. إلا أن تتابع الوفود وتكاثرها بلغ إلى القمة بعد هذه الغزوة..
بعض الوقائع المهمة في هذه السنة :..
في هذه السنة وقعت عدة وقائع لها أهمية في التاريخ :.
١- بعد قدوم رسول الله من تبوك وقع اللعان بين عويمر العجلاني وامرأته..
٢- رجمت المرأة الغامدية التي جاءت فاعترفت على نفسها بالفاحشة، رجمت بعد ما فطمت ابنها..
٣- توفي النجاشي أصحمة، ملك الحبشة، وصلى عليه رسول الله ﷺ صلاة الغائب..
– توفيت أم كلثوم بنت النبي ، فحزن عليها حزنا شديدا،.
وقال لعثمان : لو كانت عندي ثالثة لزوجتكها.
٥ – مات رأس المنافقين عبد الله بن أبي سلول بعد مرجع رسول الله من تبوك، .
فاستغفر له رسول الله وصلى عليه بعد أن حاول عمر منعه عن الصلاة عليه، وقد نزل القرآن بعد ذلك بموافقة عمر..