بركة خان أعظم ملوك المغول.

بعد نصر عين جالوت العظيم.. لم ينته المغول بعد.. بل إستجمعوا قواهم وإستعادوا عافيتهم وحاربوا المسلمين في حروب عدة بعد عين جالوت .. لا تقل ضراوة عنها..

و لكنهم هزموا في جميعها.. و تتبعهم المسلمون إلى عقور دورهم.. ومن ثم القضاء على هولاكو وأبنائه وقواده من بعده.. وكانت هذه الانتصارات بعد فضل الله عز وجل بسبب رجل شجاع لا يقل بسالة وشجاعة عن قطز وبيبرس..

رجل اختار دينه على قومه وبني جلدته..

فعسى الله أن يُخرج من أصلابهم من يقول لا إله إلا الله.. تلك الكلمات الرقراقات العذباوات النيرات.. التي خرجت من أعظم إنسان على وجه الأرض..

حين أجهده المشركون وأبوا الإسلام، فأرسل الله له ملك الجبال ليعرض عليه أن يطبق عليهم الأخشبين فلم يرض.. راجياً من الله أن يخرج من أصلابهم من يقول لا إله إلا الله، وحقق الله لنبيه ما رجى، فها هو عكرمة وخالد ابن الوليد وعمرو بن العاص،

الذين خرجوا من أصلاب صناديد الكفر، ليرفعوا كلمة الدين وينشروا راية الإسلام في شتى ربوع الأرض..

وفي هذه القصة يخرج لنا من ظهر المغول الذين خربوا البلاد وقتلوا العباد، وأكثروا في الأرض الفساد، رجلاً يعجز التاريخ عن وصفه.. وهو ” بركة خان” أسد المغول وناصر دين الله، من صلب جنكيز خان، .

وعند الحديث عن رموز المغول فأول ما يتبادر إلى الذهن جنكيز خان على رأس القائمة، ثم حفيده هولاكو الذي قاد الحملة على بغداد، وقتل الخليفة ودمر مكتبة بغداد العظيمة، وجعل من كتبها القيمة جسراً عظيماً عبروا من خلاله نهر الفرات ..

و وسط هذه الصورة الحالكة السواد عن المغول كشعب وأمة، ضاعت آثار وأخبار رجل من أعظم الرجال، وصاحب فضل كبير في دخول أمة المغول دين الإسلام، بل إن هذا الرجل يضرب أروع الأمثلة في رسوخ عقيدة الولاء والبراء فيحارب بني جلدته في سبيل نصرة الإسلام والمسلمين..

هذا الرجل هو حفيد جنكيز خان  وينسب إليه الفضل الكبير في انتشار الإسلام بكثافة كبيرة في هذه البلاد، وبداية حقبة عظيمة للمسلمين هناك، وهي حقبة ملوك المغول المسلمين..

الذين حكموا أكثر من ثلثي قارة آسيا، من الصين والبحر الأصفر أقصى الشرق، حتى جورجيا وبحر قزوين وبلاد ما وراء النهر غرباً، ومن أعالي سيبيريا وروسيا شمالاً، حتى الهند والمحيط الهندي جنوباً..

كما حكموا شبه القارة الهندية لمدة تزيد على ثلاثة قرون كاملة كانت من أزهى عصور الهند.. هذا الرجل هو .. ” بركة خان ”

هو أبو المعالي ناصر الدين بركة خان بن جوجي حفيد جنكيز خان،.

أول من أسلم من أمراء المغول وكان ذلك حوالي عام ١٢٥٢م ٦٥٠ هجرياً، فأخذ الإسلام شغاف قلبه ومجامع فكره واستأثر بمكامن لُبه..

نشأ بركة خان كنشأة أي مغولي، حيث كان على دين أهله مجوسيًّا كافراً، وفي سنة ستمائة واثنتين وخمسين أسلم وحُسن إسلامه، ولإسلام بركة خان قصة قصيرة.. ملخصها أنه خلال المعارك الرهيبة التي خاضها المغول في أواسط آسيا،

تمكنوا من القضاء على الدولة الخوارزمية بقيادة السلطان جلال الدين منكبرتي، واتخذ جوجي خان – والد بركة – من الأميرة ” رسالة ” بنت السلطان علاء الدين خوارزم شاه زوجةً له..

لم تكن ” رسالة ” بنت علاء الدين والدة بركة خان، لكنها تركت أثراً كبيراً فيه وفي أخيه الأكبر باتو، فكانا دائمي الدفاع عن الإسلام والمسلمين.. وكان لها عظيم الأثر في ترغيبه الدخول في الإسلام.

وأنه أسلم على يديها، وقيل أيضاً أنه التقى بقافلة مسلمة في بخارى سنة ١٢٥٢م كانت تمر عبر المدينة وسألهم عن دينهم، ولما أُعجب بالمفاهيم والعقيدة الإسلامية مثل تحريم عبادة الأيقونات والتماثيل، اعتنق الإسلام وأسلم وحسُن إسلامه..

بركة خان أعظم ملوك المغول.

كان بركة خان مسلماً محباً للإسلام والمسلمين كثيراً..

حيث راسل الخليفة العباسي “المستعصم بالله” في بغداد، وتبادل معه الهدايا وبايعه، ودعا العلماء من كل مكان ليُفَقِهوا الناس بالدين، وأغدق عليهم المال، وأخذ بالإسلام جُلَّ عشيرته وأولها زوجته، والتي أسلمت على يده وهي “حجك خاتون” ..

حينما تولى بركة خان الحكم كان من نصيبه القبيلة الذهبية، وهي أقوى وأرقى قبائل المغول، وأكثرها انتشاراً، وقد أسلم بركة خان في وقت عصيب وهو وقت اجتياح المغول للعالم وهو وقت القوة المفرطة لهم،

فلم تقف في وجههم أي دولة من الدول ولا أمة من الأمم إلا وسحقوها ودمروها وخربوها، وحينما أسلم أسلم معه آلاف المغول، وكان على خلاف كبير ودائم مع ابن عمه ” هولاكو خان” المجوسي، وحدثت خلافات عدة بينهما وخاصة عند اختيار الخان الأعظم لبلاد المغول,

ولكن الخلاف الأكبر والأعظم من ذلك هو حينما قرر هولاكو اجتياح ديار الإسلام..

فكيف استطاع بركة خان التصدي لهولاكو لمنعه من اقتحام الخلافة وتدمير بلاد الإسلام..؟

وكيف استطاع اقناع جيوشه بالتصدي لهولاكو..

بالرغم من أن من معه من الجنود قريبي عهد بالوثنية، وما زالت صورة جنكيز خان القديمة محفورة في أذهانهم وراسخة في عقولهم، ولن يستطيع السيطرة عليهم إذا تم إعلان الحرب على هولاكو..؟

فصعُب عليه الأمر كثيراً وظن أنه لا يستطيع أن يوفق بين بني جلدته وبين الإسلام، ولكن الله قدير والله غفور رحيم، فألهمه التوفيق والانتصار لدين الله، فالإسلام لا يعرف جنس ولا لون ولا قومية..

فماذا فعل بركة خان حيال هذه المعضلة..؟
وماذا حدث بعد ذلك..؟

وماذا قدم  للإسلام والمسلمين..؟

عندما قررت جيوش هولاكو اقتحام بغداد عاصمة الخلافة وذلك في سنة ١٢٥٨م.. حينها بادر بركة خان إلى اتخاذ كافة السبل والمفاوضات لمنع هولاكو خان ” ابن عمه” من اقتحام عاصمة دولة الإسلام التي ينتمي إليها عقائديا،.

ولكن كلها بائت بالفشل، وقد يتبادر إلى الذهن لما لم يحارب بركة خان جيوش هولاكو ويمنعه منعاً فعلياً من اقتحام بلاد الإسلام وخاصة عاصمة الخلافة العباسية وحاضرة العالم في ذلك الوقت ” بغداد” ..

نقول أن الأمر لم يكن بالشيء الهين.. حيث أن معظم قبائل المغول كانت تحت سيطرة الخان الأعظم في ذلك الوقت وهو المحارب والعدو اللدود للمسلمين،

ما عدا القبيلة الذهبية التي كانت تحت سيطرة بركة خان المسلم، ورغم أنها الأقوى والأعظم من بين قبائل المغول إلا أنه كان من الصعب على بركة خان إقناع جيوش المغول من القبيلة الذهبية لمحاربة بني جنسهم من جيوش هولاكو،

حيث أنهم قريبي عهد بالوثنية وحديثي عهد بالإسلام، كما أن صورة جنكيز خان ما زالت محفورة في أذهانهم ومن الصعب إزالتها بسهولة..

فماذا فعل بركة  حيال هذا الموقف العصيب ..؟

اتخذ بركة خان خطة تجعل له مخرجًا في محاولة تعطيل هولاكو من التقدم نحو الخلافة الإسلامية، ببغداد فبعث جنده يتحرشون بجنود هولاكو حتى يبدأ بالقتال، ولا يقع تحت غضب الخان الأعظم في ذلك الوقت،

وكان وقت تنفيذ خطته مناسبًا لما بدأ الخلاف يدب بين بركة خان وبين ابن عمه هولاكو؛ وسببه أن بركة خان أرسل إليه يطلب منه نصيبًا مما فتحه من البلاد، وأخذه من الأموال والغنائم على ما جرت به عادة ملوكهم،

ونظراً لكره هولاكو الشديد لبركة خان قرر قتل رسله وقطع رؤوسهم؛ وما زاد غضبه أكثر هو أنه دخل بعدها عاصمة الخلافة العباسية بغداد وقتل الخليفة المستعصم بالله ومثل بجثته، رغم تحذير بركة خان الشديد له وحثه على التراجع..

فاشتاط غيظ بركة خان.. وقرر الوقوف رسمياً ضد هولاكو ومحاربته محاربة فعلية، والتحالف مع جيوش المسلمين ضد بني جلدته..

فقام بمكاتبة الظاهر بيبرس سلطان المماليك الجديد،

ليتفقا على هولاكو بعد ما علم بالنصر العظيم الذي حققه كلاً من قطز وبيبرس على هولاكو في موقعة عين جالوت العظيمة، وأعلمه بأن هولاكو ذهب ليعد العدة له كي يرد هزيمته في عين جالوت، وقد بعث إليه برسالة يقول له فيها:

” قد علمت محبتي للإسلام، وعلمت ما فعل هولاكو بالمسلمين فاركب أنت من ناحية حتى آتيه، وأنا من ناحية حتى نصطلمه، أو نخرجه من البلاد، وأعطيك جميع ما كان بيده من البلاد” ..

فتحالفا الإثنين معاً ضد هولاكو وقاتلاه قتالاً عنيفاً، حتى أوصلوه إلى عقر داره، وبدأت بعدها سلسلة من الحروب العنيفة بين هولاكو وبركة خان،

واختلفت أهداف كل منهما؛ فهدف بركة خان هو العمل على وقف العمليات العسكرية للمغول في الأراضي الإسلامية، وكان هدف هولاكو هو القضاء على بلاد الإسلام، ثم محاربة مغول القبجاق والاستيلاء على مملكة بركة خان، المتحالف الأول مع المسلمين ضد هولاكو..

فبدأت المعارك بينهما، واشتعلت الحرب الضروس بين جيوش المغول، حتى التقيا في حرب حامية الوطيس، شمال بلاد القوقاز، قرب الأنهار الجليدية والمياه المتجمدة في الشمال..

واستطاعت جيوش بركة خان بعد قتال عنيف أن تهزم جيوش هولاكو هزيمة نكراء؛.

أدت إلى مقتل آلاف المغول من أتباع هولاكو بما فيهم أصحابه وقادة جيوشه الكبار.. وبعد تلك الهزيمة قررت جيوش هولاكو المنهزمة الفرار نحو نهر متجمد يسمى نهر ترك في الشمال ..

وكان قد تجمد ماؤه من شدة البرودة والسقيع، وتكردسوا على ذلك النهر المتجمد، فلما ثقلوا على النهر انفقأ الجليد من تحتهم، فغرق منهم الآلاف، وهرب هولاكو في شرذمة قليلة مع بعض جنده، ولم يتركه بركه خان وطارده حتى قتله ..

وبعد أن مات هولاكو تولى أمر مملكته من بعده ابنه الأكبر “أبغا”، وأراد أن يثأر لتلك الهزيمة التي لحقت بأبيه، فعزم على قتال بركة خان، فجهز إليه جيوشاً عظيمةً،

ثم التقى ببركة خان في حرب شديدة استطاع بركة خان في نهايتها القضاء على جيوش أبغا كلها، وهزيمته هزيمة نكراء كأبيه وأكثر.. وقيل أن أبغا قد قتل في المعركة..

لقد غيَّر الإسلام بركة خان تمامًا،.

فغلبت عاطفته الدينية على عاطفته العصبية والقبلية، فحارب بني جنسه لأجل دينه، وأحب الإسلام حباً شديداً حتى تملك شغاف قلبه، حيث كان يميل إلى المسلمين ميلاً زائدًا،

ويعظم أهل العلم، ويقصد الصُلحاء، واستطاع أن يكسر هولاكو الذي فعل بالمسلمين الأفاعيل، فقد قاتله بسبب قتله للخليفة المستعصم بالله وغيرها من المذابح التي ارتكبها في حق المسلمين، وقتل ابنه ” أبغا ” من بعده..

كان بركة خان نبيلاً، شجاعاً، قوياً، جوادًا، كريماً، عادلاً، حيث أظهر شعائر الإسلام في مملكته، وأكرم الفقهاء،

واستدعى العلماء من الأطراف، والمشايخ من الآفاق والأكناف؛ وأدناهم وأبرَّهم، ليوقفوا الناس على معالم دينهم، واتخذ المساجد والمدارس بنواحي مملكته، وانتشر الإسلام بسببه انتشاراً واسعاً, وعلى نطاقٍ كبيرٍ جداً، حيث دخل بسببه ملايين من البشر في دين الله تعالى..
فقد أحبه الجميع حكاماً ومحكومين، حتى أن بيبرس من كثرة حبه له تزوج ابنته، وسمى ولده الكبير “بركة خان” تيمناً وحباً لهذه الشخصية الإسلامية العظيمة ..

وفاته:

ترجل الفارس العظيم بعد أن وصل ملك دولته وخلفائه من بعده أرجاء الدنيا، والتي وصلت رقعتها من تركستان حتى روسيا وسيبيريا، وحكم خلفائه من بعده معظم بلاد الروس,.

بل وحكموا موسكو نفسها، ولم يكن ينصب أميرها إلا بعد موافقة سلطان المسلمين من المغول، ويؤدي الجزية لهم عن يد وهم صاغرون، بل وامتدت دولتهم إلى الجنوب حتى وصلت إلى الهند وخليج البنغال، وتمكنوا من السيطرة على شبه القارة الهندية كلها لمدة تزيد عن الثلاثمائة والخمسين سنة ..

وقد توالت خدمات بركة خان للإسلام حتى توفي رحمه الله عام ١٢٦٧م- ٦٦٥هجرياً قرب تبليسي في جورجيا.

أيُ فخرٍ هذا.. أيُ عزٍ هذا.. الذي جعلنا أمراءً على أمراء العالم.. وملوكاً على ملوك العالم.. وعظماء على عظماء العالم.. وأيُ دينٍ هذا الذي جعل من مغولي سفاح للدماء يحارب الإسلام.. إلى بطلٍ عظيم يتصدى لحماية الإسلام.. ويقاتل بني جلدته من أجل الدفاع عن المسلمين ونصرة الإسلام..

رحم الله القائد المغولي المسلم بركة خان وأسكنه فسيح جناته ..
نعم هكذا تكون الرجال..! نعم هكذا كنا..! فمتى نعود..؟

دكتور محمد عطا.